الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُوماتٌ} اختلفوا في تأويله على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بأسرها، وهذا قول قتادة، وطاوس، ومجاهد، عن ابن عمر وهو مذهب مالك. والثاني: هو شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، وهذا قول أبي حنيفة. والثالث: هن شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، والسدي، ونافع، عن ابن عمر، وعطاء، والضحاك، والشافعي. ثم قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الإهلال بالتلبية، وهو قول عمر ومجاهد وطاوس. والثاني: أنه الإحرام، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وعطاء، والشافعي. {فَلاَ رَفَثَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الجماع، وهو قول ابن عمر، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والزهري. والثاني: أنه الجماع أو التعرض له بمُوَاعَدَةٍ أو مُدَاعَبَةٍ، وهو قول الحسن البصري. والثالث: أنه الإفْحَاشُ للمرأة في الكرم، كقولك إذا أحللنا فعلنا بك كذا من غير كناية، وهو قول ابن عباس، وطاوس. {وَلاَ فُسُوقَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه فِعْلُ ما نُهِيَ عنه في الإحرام، من قتل صيد، وحلق شَعْر، وتقليم ظفر، وهو قول عبد الله بن عمر. والثاني: أنه السباب، وهو قول عطاء، والسدي. والثالث: أنه الذبح للأصنام، وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والرابع: التنابز بالألقاب، وهو قول الضحاك. والخامس: أنه المعاصي كلها، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وطاووس. {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: هو أن يجادل الرجل صاحبه، يعني يعصيه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. الثاني: هو السباب، وهو قول ابن عمر وقتادة. والثالث: أنه المِرَاءُ والاختلاف فِيمَنْ هو أَبَرُّهُم حَجّاً، وهذا قول محمد بن كعب. والرابع: أنه اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم، وهذا قول القاسم بن محمد. والخامس: أنه اختلافهم في مواقف الحج، أيهم المصيب موقف إبراهيم، وهذا قول ابن زيد. والسادس: أن معناه ألاّ جدال في وقته لاستقراره، وإبطال الشهر الذي كانوا ينسؤونه في كل عام، فربما حجوا في ذي القعدة، وربما حجوا في صفر، وهذا قول أبي جعفر الطبري. وفي قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} تأويلان: أحدهما: تزوّدوا بالأعمال الصالحة، فإن خير الزاد التقوى. والثاني: أنها نزلت في قوم من أهل اليمن، كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فنزلت فيهم: {وَتَزَوَّدُوا}، يعني من الطعام.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ} روى ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجرين للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ} وكان ابن الزبير يقرأ {فِي مَواقِيتِ الْحَجِّ}. {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه فإذا رجعتم من حيث بَدَأْتُم. والثاني: أن الإفاضة: الدفع عن اجتماع، كفيض الإناء عن امتلاء. والثالث: أن الإفاضة الإسراع من مكان إلى مكان. وفي {عَرَفَاتٍ} قولان: أحدهما: أنها (جمع) عرفة. والثاني: أنها اسم واحد وإن كان بلفظ الجمع. وهذا قول الزجاج. واختلفوا في تسمية المكان عرفة على أربعة أقاويل: أحدها: أن آدم عرف فيه حواء بعد أن أُهْبِطَا من الجنة. والثاني: أن إبراهيم عرف المكان عند الرؤية، لما تقدم له في الصفة. والثالث: أن جبريل عرَّف فيه الأنبياء مناسكهم. والرابع: أنه سُمِّيَ بذلك لعلو الناس فيه، والعرب تسمي ما علا (عرفة) و(عرفات)، ومنه سُمِّيَ عُرف الديك لعلوه. {فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} والمَشْعَرُ المَعْلَمُ، سُمِّيَ بذلك، لأن الدعاء عنده، والمقام فيه من معالم الحج، وحد المشعر ما بين منى ومزدلفة مِنْ حَد مفضي مَأزمَي عرفة إلى محسر، وليس مأزماً عرفة من المشعر.
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فيه قولان: أحدهما: أنها نزلت في قريش، وكانوا يسمون الحمس، لا يخرجون من الحرم في حجهم، ويقفون مزدلفة، ويقولون نحن من أهل الله، فلا نخرج من حرم الله، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وهي موقف إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يعني جميع العرب، وهذا قول عائشة، وعروة، ومجاهد، وقتادة. والقول الثاني: أنها أمر لجميع الخلق من قريش وغيرهم، أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، يعني بالناس إبراهيم، وقد يعبر عن الواحد باسم الناس، قال الله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» [آل عمران: 173] وكان القائل واحداً، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول الضحاك. وفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تأويلان: أحدهما: استغفروه من ذنوبكم. والثاني: استغفروه مما كان من مخالفتكم في الوقت والإفاضة.
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} قوله تعالى: {فَإذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُمْ} أما المناسك، فهي المتعبدات، وفيها ها هنا تأويلان: أحدهما: أنها الذبائح، وهذا قول مجاهد. والثاني: ما أمروا بفعله في الحج، وهذا قول الحسن البصري. وفي قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللهَ} تأويلان: أحدهما: أن هذا الذكر هو التكبير في أيام مِنى. والثاني: أنه جميع ما سُنَّ من الأدعية في مواطن الحج كلها. وفي قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ ءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم كانوا إذا فرغوا من حجهم في الجاهلية جلسوا في منى حَلَقاً وافتخروا بمناقب آبائهم، فأنزل الله تعالى ذكره {فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}، وهذا قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أن معناه، فاذكروا الله كذكركم الأبناء الصغار للآباء، إذا قالوا: أبَهْ أُمَّه، وهذا قول عطاء، والضحاك. والثالث: أنهم كانوا يدعون، فيقول الواحد منهم: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبّة، كثير المال، فاعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فأُمِرُوا بذكر الله، كذكرهم آباءهم، أو أشد ذكراً، وهو قول السدي. قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ حَسَنَةً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنه الحسنة العافية في الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة. والثاني: أنها نِعَمُ الدنيا ونِعَمُ الآخرة، وهو قول أكثر أهل العلم. والثالث: أن الحسنة في الدنيا العلمُ، والعبادة، وفي الآخرة الجنة، وهو قول الحسن، والثوري. والرابع: أن الحسنة في الدنيا المال، وفي الآخرة الجنة، وهو قول ابن زيد، والسدي.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} هي أيام منى قول جميع المفسرين، وإن خالف بعض الفقهاء في أن أشرك بين بعضها وبين الأيام المعلومات. {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني تعجل النفْر الأول في اليوم الثاني من أيام منى. {وَمَن تَأَخَّرَ} يعني إلى النفْر الثاني، وهو الثالث من أيام منى. {فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وفي الإثم ها هنا، خمسة تأويلات: أحدها: أن من تعجل فلا إثم عليه في تعجله، ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخره، وهذا قول عطاء. والثاني: أن من تعجل في يومين، فمغفور له، لا إثم عليه، ومن تأخر فمغفور له، لا إثم عليه، وهذا قول ابن مسعود. والثالث: فلا إثم عليه، إن اتّقى فيما بقي من عمره، وهذا قول أبي العالية، والسدي. والرابع: فلا إثم عليه، إن اتقى في قتل الصيد في اليوم الثالث، حتى يحلّوا أيام التشريق، وهذا قول ابن عباس. والخامس: فلا إثم عليه، إن اتقى إصابة ما نُهِي عنه، فيغفر له ما سلف من ذنبه، وهذا قول قتادة. فأما المراد بذكر الله تعالى في الأيام المعدودات، فهو التكبير فيها عقب الصلوات المفروضات، وَاخْتُلِفَ فيه على أربعة مذاهب: أحدها: أنه تكبير من بعد صلاة الصبح، يوم عرفة، إلى بعد صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، وهذا قول علي رضي الله عنه، وبه قال من الفقهاء أبو يوسف، ومحمد. والثاني: أنه تكبير من صلاة الفجر، من يوم عرفة، إلى صلاة العصر، من يوم النحر، وهذا قول ابن مسعود، وبه قال من الفقهاء أو حنيفة. والثالث: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر، من يوم النحر، إلى بعد صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، وهذا قول زيد بن ثابت. والرابع: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر، من يوم النحر، إلى آخر صلاة الصبح، من آخر التشريق، وهذا قول عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وبه قال من الفقهاء الشافعي.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةٍ الدُّنْيَا} فيه قولان: أحدهما: يعني من الجميل والخير. والثاني: من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة في دينه. {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقول: اللهم اشهد عليّ فيه، وضميره بخلافه. والثاني: معناه: وفي قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه. والثالث: معناه: ويستشهد الله على صحة ما في قلبه، ويعلم أنه بخلافه. وهي في قراءة ابن مسعود {وَيَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} والألد من الرجال الشديد الخصومة، وفي الخصام قولان: أحدهما: أنه مصدر، وهو قول الخليل. والثاني: أنه جمع خصيم، وهو قول الزجاج. وفي تأويل: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} هنا أربعة أوجه: أحدها: أنه ذو جدال، وهو قول ابن عباس. والثاني: يعني أنه غير مستقيم الخصومة، لكنه معوجها، وهذا قول مجاهد، والسدي. والثالث: يعني أنه كاذب، في قول الحسن البصري. والرابع: أنه شديد القسوة في معصية الله، وهو قول قتادة. وقد روى ابن أبي مليكة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الأَلَدُّ الخَصَمُ ». وفيمن قصد بهذه الآية وما بعدها قولان: أحدهما: أنه صفة للمنافق، وهذا قول ابن عباس، والحسن. والثاني: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وهو قول السدي. قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ} في قوله تولى تأويلان: أحدهما: يعني غضب، حكاه النقاش. والثاني: انصرف، وهو ظاهر قول الحسن. وفي قوله تعالى: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} تأويلان: أحدهما: يفسد فيها بالصد. والثاني: بالكفر. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} فيه تأويلان: أحدهما: بالسبي والقتل. والثاني: بالضلال الذي يؤول إلى السبي والقتل. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} معناه لا يحب أهل الفساد. وقال بعضهم لا يمدح الفساد، ولا يثني عليه، وقيل أنه لا يحب كونه ديناً وشرعاً، ويحتمل: لا يحب العمل بالفساد. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه دعته العزة إلى فعل الإثم. والثاني: معناه إذا قيل له اتق الله، عزت نفسه أن يقبلها، للإثم الذي منعه منها. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ} يشري نفسه أي يبيع، كما قال تعالى: {وَشَرَوهُ بثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه، قال الحسن البصري: العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله. واخْتُلِفَ فيمن نزلت فيه هذه الآية، على قولين: أحدهما: نزلت في رجل، أمر بمعروف ونهى عن منكر، وقتل، وهذا قول علي، وعمر، وابن عباس. والثاني: أنها نزلت في صُهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله، ولحق بالمسلمين، وهذا قول عكرمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السلْمِ كَآفَّةً} قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي بفتح السين، والباقون بكسرها، واختلف أهل اللغة في الفتح والكسر، على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان تستعمل كل واحدة منهما في موضع الأخرى. والثاني: معناهما مختلف، والفرق بينهما أن السِّلم بالكسر الإسلام، والسَّلم بالفتح المسالمة، من قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] وفي المراد بالدخول في السلم، تأويلان: أحدهما: الدخول في الإسلام، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. والثاني: معناه ادخلوا في الطاعة، وهو قول الربيع، وقتادة. وفي قوله: {كَافَّةً} تأويلان: أحدهما: عائد إلى الذين آمنوا، أن يدخلوا جميعاً في السلم. والثاني: عائد إلى السلم أن يدخلوا في جميعه. {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ} يعني آثاره. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فيه تأويلان: أحدهما: مبين لنفسه. والآخر: مبين بعدوانه. واختلفوا فيمن أبان به عدوانه على قولين: أحدهما: بامتناعه من السجود لآدم. والثاني: بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62]. واختلفوا فيمن أمر بالدخول في السلم كافة، على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المأمور بها المسلمون، والدخول في السلم العمل بشرائع الإسلام كلها، وهو قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، آمنوا بمن سلف من الأنبياء، فأُمِروا بالدخول في الإسلام، وهو قول ابن عباس، والضحاك. والثالث: أنها نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وسعيد بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم السبت كنا نعظمه ونَسْبِتُ فيه، وإن التوراة كتاب الله تعالى، فدعنا فلنصم نهارنا بالليل، فنزلت هذه الآية، وهو قول عكرمة. قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه عصيتم. والثاني: معناه كفرتم. والثالث: إن ضللتم وهذا قول السدي. {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها حجج الله ودلائله. والثاني: محمد، وهو قول السدي. والثالث: القرآن، وهو قول ابن جريج. والرابع: الإسلام. {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني عزيز في نفسه، حكيم في فعله.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ}، قرأ قتادة {فِي ظِلاَلٍ الغَمَامِ} وفيه تأويلان: أحدهما: أن معناه إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام، وبالملائكة. والثاني: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)} قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَآءِيل كَمْ ءَاتَيْنَاهُم منْ ءَايَةِ بَيِّنَةٍ} ليس السؤال على وجه الاستخبار، ولكنه على وجه التوبيخ. وفي المراد بسؤاله بني إسرائيل، ثلاثة أقاويل: أحدها: أنبياؤهم. والثاني: علماؤهم. والثالث: جميعهم. والآيات البينات: فَلْقُ البحر، والظلل من الغمام، وغير ذلك. {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} يعني بنعمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في الدنيا وتزيينها لهم، ثلاثة أقاويل: أحدها: زينها لهم الشيطان، وهو قول الحسن. والثاني: زينها لهم الذين أغووهم من الإنس والجن، وهو قول بعض المتكلمين. والثالث: أن الله تعالى زينها لهم بالشهوات التي خلقها لهم. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأنهم توهموا أنهم على حق، فهذه سخريتهم بضعفة المسلمين. وفي الذي يفعل ذلك قولان: أحدهما: أنهم علماء اليهود. والثاني: مشركو العرب. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني أنهم فوق الكفار في الدنيا. {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فإن قيل: كيف يرزق من يشاء بغير حساب وقد قال تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 36] ففي هذا ستة أجوبة: أحدها: أن النقصان بغير حساب، والجزاء بالحساب. والثاني: بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء، لا يقدر بالحساب. والثالث: إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق. والرابع: دائم لا يتناهى فيصير محسوباً، وهذا قول الحسن. والخامس: أن الرزق في الدنيا بغير حساب، لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره. والسادس: أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يَمُنُ عليهم به.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} خمسة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا على الكفر، وهذا قول ابن عباس والحسن. والثاني: أنهم كانوا على الحق، وهو قول قتادة والضحاك. والثالث: أنه آدم كان على الحق إماماً لذريته فبعث الله النبيين في ولده، وهذا قول مجاهد. والرابع: أنهم عشر فرق كانوا بين آدم ونوح على شريعة من الحق فاختلفوا، وهذا قول عكرمة. والخامس: أنه أراد جميع الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج الله ذرية آدم من صلبه، فعرضهم على آدم، فأقروا بالعبودية والإسلام، ثم اختلفوا بعد ذلك. وكان أُبيّ بن كعب يقرأ: {كَانَ الْبَشَرُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}. وهذا قول الربيع وابن زيد. وفي قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} قولان: أحدهما: في الحق. والثاني: في الكتاب وهو التوراة. {إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} يعني اليهود. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يعني الحجج والدلائل {بَغْيَا بَيْنَهُمْ} مصدر من قول القائل: بغى فلان على فلان، إذا اعتدى عليه. {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أراد الجمعة، لأن أهل الكتاب اختلفوا فيها فضلوا عنها، فجعلها اليهود السبت، وجعلها النصارى الأحد، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، فهدى الله الذين آمنوا إليها، وهذا قول أبي هريرة. والثاني: أنهم اختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى الشرق ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا الله للقبلة، وهذا قول ابن زيد. والثالث: أنهم اختلفوا في الكتب المنزلة، فكفر بعضهم بكتاب بعض فهدانا الله للتصديق بجميعها.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلْ: مَآأَنفَقْتُم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت قبل آية الزكاة في إيجاب النفقة على الأهل والصدقة ثم نسختها آية الزكاة، وهذا قول السدي. والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن أموالهم أين يضعونها، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول ابن زيد.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} بمعنى فرض. وفي فرضه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه خطاب لكل أحد من الناس كلهم أبداً حتى يقوم به من فيه كفاية، وهذا قول الفقهاء والعلماء. والثالث: أنه فرض على كل مسلم في عينه أبداً، وهذا قول سعيد بن المسيب. ثم قال تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} والكرْهُ بالضم إدخال المشقة على النفس من غير إكراه أحد. والكَره بالفتح إدخال المشقة على النفس بإكراه غيره له. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه فيه حذفاً وتقديره: وهو ذو كره لكم وهذا قول الزجاج. والثاني: معناه وهو مكروه لكم، فأقام المقدّر مُقامه. ثم في كونه كرهاً تأويلان: أحدهما: وهو كره لكم قبل التعبد وأما بعده فلا. الثاني: وهو كره لكم في الطباع قبل الفرض وبعده. وإنما يحتمل بالتعبد. ثم قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وفي عسى ها هنا قولان: أحدهما: أنه طمع المشفق مع دخول الشك. والثاني: أنها بمعنى قد. وقال الأصم: {وَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيئاً} من القتال {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني في الدنيا بالظفر والغنيمة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} يعني من المتاركة والكف {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، يعني في الدنيا بالظهور عليكم وفي الآخرة بنقصان أجوركم. {وَاللهُ يَعْلَمُ} ما فيه مصلحتكم {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قَتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} والسبب في نزول هذه الآية أن عبد الله بن جحش خرج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر من أصحابه وهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، عكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن البيضاء، وخالد ابن البكير، وسعد بن أبي وقاص، وواقد بن عبد الله، وعبدُ الله بن جحش كان أميرهم، فتأخر عن القوم سعد وعتبة ليطلبا بعيراً لهما ضَلَّ، فلقوا عمرو بن الحضرمي فرماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وغُنِمت العير، وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى الآخِرة أو أول ليلة من رجب، فعيرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقدم عبد الله بن جحش فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه المسلمون حتى أنزل الله فيه هذه الآية. واختلفوا فيمن سأل عن ذلك على قولين: أحدهما: أنهم المشركون ليعيّروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحلوا قتاله فيه، وهو قول الأكثر. والثاني: أنهم المسلمون سألوا عن القتال في الشهر الحرام ليعلموا حكم ذلك. فأخبرهم الله تعالى: أن الصد عن سبيل الله وإخراج أهل الحرم منه والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي الحرم، وهذا قول قتادة. واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم هل نسخ أم لا؟ فقال الزهري: هو منسوخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. وقال عطاء: هو ثابت الحكم، وتحريم القتال فيه باقٍ غير منسوخ، والأول أصح لما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وأرسل أبا العاص إلى أوطاس لحرب مَنْ بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم، وكانت بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة. وقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أي يرجع، كما قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] أي رجعا، ومن ذلك قيل: استرد فلان حقه. {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت، وأصل الحبوط الفساد، فقيل في الأعمال إذا بطلت حبطت لفسادها. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية. وسبب نزولها أن قوماً من المسلمين قالوا في عبد الله بن جحش ومن معه: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزْراً فليس فيه أجر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} يعني بالله ورسوله، {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} يعني عن مساكنة المشركين في أمصارهم، وبذلك سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لهجرهم دورهم ومنازلهم كراهة الذل من المشركين وسلطانهم، {وَجَاهَدُواْ} يعني قاتلوا، وأصل المجاهدة المفاعلة من قولهم جهد كذا إذا أكدّه وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة قيل فلان يجاهد فلاناً. وأما {فِي سَبِيلِ اللهِ} فطريق الله، وطريقه: دينه. فإن قيل: فكيف قال: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ} ورحمة الله للمؤمنين مستحقة؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفاً أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها معه. والجواب الثاني: أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية: يعني يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر والميسر وشربها، وهذه أول آية نزلت فيها. والخمر كل ما خامر العقل فستره وغطى عليه، من قولهم خَمَّرتُ الإناء إذا غطيته، ويقال هو في خُمار الناس وغمارهم يراد به دخل في عُرضهم فاستتر بهم، ومن ذلك أُخذ خمار المرأة لأنه يسترها، ومنه قيل هو يمشي لك الخمر أي مستخفياً، قال العجاج: في لامع العِقْبان لا يأتي الخَمَرْ *** يُوجّهُ الأرضَ ويستاق الشّجَرْ يعني بقوله لا يأتي الخمر أي لا يأتي مستخفياً لكن ظاهراً برايات وجيوش. فأما الميسر فهو القمار من قول القائل يَسر لي هذا الشيء يَسْراً ومَيْسِراً، فالياسر اللاعب بالقداح ثم قيل للمقامر ياسر ويَسَر كما قال الشاعر: فبت كأنني يَسَرٌ غبينٌ *** يقلب بعدما اختلع القداحا {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} قرأ حمزة والكسائي {..... كَثِيرٌ} بالثاء. وفي إثمهما تأويلان: أحدهما: أن شارب الخمر يسكر فيؤذي الناس، وإثم الميسر: أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم، وهذا قول السدي. والثاني: أن إثم الخمر زوال عقل شاربها إذا سكر حتى يغْرُب عنه معرفة خالقه. وإثم الميسر: ما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء كما وصف الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمً الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الْخمر والْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 90] وهذا قول ابن عباس. وأما قوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فمنافع الخمر أثمانها وربح تجارتها، وما ينالونه من اللذة بشربها، كما قال حسان بن ثابت: ونشربها فتتركنا ملوكاً *** وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاءُ وكما قال آخر: فإذا شربت فإنني *** رَبُّ الخَورْنق والسدير وإذا صحوتُ فإنني *** ربُّ الشويهة والبعير وأما منافع الميسر ففيه قولان: أحدهما: اكتساب المال من غير كدّ. والثاني: ما يصيبون من أنصباء الجزور، وذلك أنهم كانوا يتياسرون على الجزور فإذا أفلح الرجل منهم على أصحابه نحروه ثم اقتسموه أعشاراً على عدة القداح، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة: وجزور أيسار دعوت إلى الندى *** أوساط مقفرة أخف طلالها وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعْهِمَا} فيه تأويلان: أحدهما: أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما بعد التحريم، وهو قول ابن عباس. والثاني: أن كلاهما قبل التحريم يعني الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما، وهو قول سعيد بن جبير. وفي قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ستة تأويلات: أحدها: بما فضل عن الأهل، وهو قول أبن عباس. والثاني: أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافاً أو إقتاراً، وهو قول الحسن. والرابع: إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير، وهو قول مروي عن ابن عباس أيضاً. والخامس: أنه الصدقة عن ظهر غِنى، وهو قول مجاهد. والسادس: أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد أيضاً. واختلفوا في هذه النفقة التي هي العفو هل نسخت؟ فقال ابن عباس نسخت بالزكاة. وقال مجاهد هي ثابتة. واختلفوا في هذه الآية هل كان تحريم الخمر بها أو بغيرها؟ فقال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية. وقال قتادة وعليه أكثر العلماء: أنها حرمت بأية المائدة. وروى عبد الوهاب عن عوف عن أبي القُلوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث آيات فأول ما أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَاقِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}، فشربها قوم من المسلمين أو من شاء الله منهم حتى شربها رجلان ودخلا في الصلاة وجعلا يقولان كلاماً لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الَّصلاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فشربها من شربها منهم وجعلوا يتوقّونها عند الصلاة، حتى شربها فيما زعم أبو القلوص رجل فجعل ينوح على قتلى بدر، وجعل يقول: تحيي بالسلامة أم بكرٍ *** وهل لي بعد قومي من سلام ذريني اصطبحْ بكراَ فإني *** رأيت الموت نبّث عن هشام ووديني المغيرة لو فدوه *** بألف من رجال أو سوام وكائن بالطَويَّ طويَّ بدرٍ *** من الشيزي تُكَلّلُ بالسنامَ وكائن بالطَويَّ طويَّ بدر *** من الفتيان والحلل الكرامِ قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فزعاً يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان بيده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، لا أطعمها أبداً، فأنزل الله في تحريمها {يَا أَيَّهَا الَّذِينَ ءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ} [المائدة: 9091] فقالوا: انتهينا. وروى موسى عن عمرو عن أسباط عن السدي قال: نزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فلم يزالوا يشربونها حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم علي بن أبي طالب وعمر رضي الله عنهما، فشربوا حتى سكروا، فحضرت الصلاة فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأ: {قُلْ يَأَيُّها الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فلم يُقِمْها، فأنزل الله تعالى يشدد في الخمر {يا أيُّهَا الَّذِينَ ءَآمَنْوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ} إلى قوله: {مَا تَقُولُونَ} فكانت لهم حلالاً يشربونها من صلاة الغداة حتى يرتفع النهار أو ينتصف فيقومون إلى صلاة الظهر وهم صاحون، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون ويقومون إلى صلاة الفجر وقد أصبحوا، فلم يزالوا كذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاماً ودعا ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فسوى لهم رأس بعير ثم دعاهم إليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري فرفع لحى البعير وكسر أنف سعد، فأنزل الله تعالى نسخ الخمر وتحريمها، فقال تعالى: {يَا أَيَّهَا الَّذِينَ ءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ}. قوله تعالى: {*** وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ: إِصْلاَحٌ لَهُم خَيرٌ} قال المفسرون: لمّا نزلت سورة بني إسرائيل، وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَّلتِي هيَ أَحْسَنُ}، وفي سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً} تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام، وكانوا يعزلون طعامهم هم طعامهم، وشرابهم عن شرابهم، حتى ربما فسد طعامهم، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ تُخَالِطوهُم فَإِخْوَانَكُم}، يعني في الطعام، والشراب، والمساكنة، وركوب الدابة، واستخدام العبد قال الشعبي: فمن خالط يتيماً، فليوسع عليه، ومن خالط بأكل فلا يفعل. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قال ابن زيد: الله يعلم حين تخلط مالك بماله، أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق. {وَلَو شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم} فيه تأويلان: أحدهما: لَشدّد عليكم، وهو قول السدي. والثاني: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً، وهو قول ابن عباس. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات، حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات.
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشرِكاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ} اختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها في جميع المشركات الكتابيات وغير الكتابيات، وأن حكمها غير منسوخ، فلا يجوز لمسلم أن ينكح مشركة أبداً، وذكر أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية، ونكح حذيفة نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً، حتى كاد يبطش بهما، فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن ينزعن منكم صغرَةً قمأةً. والثاني: أنها نزلت مراداً بها مشركات العرب، ومن دان دين أهل الكتاب، وأنها ثابتة لم نسخ شيء منها، وهذا قول قتادة، وسعيد بن جبير. والثالث: أنها عامة في جميع المشركات، وقد نسخ منهن الكتابيات، بقوله تعالى في المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم} وقد روى الصلت بن بهرام، عن سفيان قال: تزوج حذيفة بن اليمان يهودية، فكتب إليه عمر ابن الخطاب، خلِّ سبيلها، فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تقاطعوا المؤمنات منهن، والمراد بالنكاح التزويج، وهو حقيقة في اللغة، وإن كان مجازاً في الوطء، قال الأعشى: ولا تقربن جارةً إنّ سِرّها *** عليك حرام فانكحن أو تأبّدا أي فتزوج أو تعفف. قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُؤمِنَةُ خَيرٌ مِنَ مُشرِكَةٍ} يعني ولنكاح أمة مؤمنة، خير من نكاح حرة مشركة من غير أهل الكتاب وإنْ شَرُف نسبها وكَرُم أصلها، قال السدي: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، فلطمها في غضب، ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ما هي يا عبد الله» قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله: «هَذِه مُؤمِنَةٌ». فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى هذا. {وَلَو أَعجَبَتكُم} يعني جمال المشركة وحسبها ومالها. {وَلاَ تُنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا} هذا على عمومه إجماعاً، لا يجوز لمسلمة أن تنكح مشرك أبداً. روى الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أهْلِ الكِتَابِ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا» وفي هذا دليل على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} قوله تعالى: {وَيَسئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أَذَىً} قال السدي: السائل كان ثابت بن الدحداح الأنصاري، وكانت العرب ومن في صدر الإسلام من المسلمين يجتنبون مُساكنة الحُيَّض ومؤاكلتهن ومشاربتهن، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول قتادة. وقال مجاهد: كان يعتزلون الحُيَّض في الفرج، ويأتونهن في أدبارهن مدة حيضهن، فأنزلت هذه الآية، والأذى هو ما يؤذي من نتن ريحه ووزره ونجاسته. {فَاعتَزِلُوا النِسَآءَ فىِ المَحِيضِ} اختلفوا في المراد بالإعتزال على ثلاثة أقاويل: أحدها: اعتزل جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه، وهذا قول عبيدة السلماني. والثاني: ما بين السرة والركبة، وهذا قول شريح. والثالث: الَفرِج وهذا قول عائشة وميمونه وحفصة وجمهور المفسرين. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطهُرنَ} فيه قراءتان: إحداهما: التخفيف وضم الهاء، وهي قراءة الجمهور، ومعناه بانقطاع الدم وهو قول مجاهد وعكرمة. والثانية: بالتشديد وفتح الهاء، قرأ بها حمزة، والكسائي وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه، ومعناها حتى تغتسل. ثم قال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يعني بالماء، فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه إذا اغتسلن وهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن. والثاني: الوضوء، وهو قول مجاهد، وطاوس. والثالث: غسل الفرج. وفي قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} أربعة تأويلات: أحدها: القُبُل الذي نهى عنه في حال الحيض، وهو قول ابن عباس. الثاني: فأتوهن من قِبَل طهرهن، لا من قِبَل حيضهن، وهذا قول عكرمة، وقتادة. والثالث: فأتوا النساء من قِبَل النكاح لا من قِبَل الفجور، وهذا قول محمد ابن الحنفية. والرابع: من حيث أحل لكم، فلا تقربوهن محرمات، ولا صائمات ولا معتكفات، وهذا قول الأصم. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُطَهَرِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: المتطهرين بالماء، وهذا قول عطاء. والثاني: يحب المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها، وهذا قول مجاهد. والثالث: يحب المتطهرين من الذنوب، أن لا يعودوا فيها بعد التوبة منها، وهو محكي عن مجاهد أيضاً. قوله تعالى: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ} أي مزدرع أولادكم ومحترث نسلكم، وفي الحرث كناية عن النكاح، {فَأتُوا حَرثَكُمْ} فانكحوا مزدرع أولادكم. {أَنَّى شِئتُمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني كيف شئتم في الأحوال، روى عبد الله بن علي أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسوا يوماً ويهودي قريب منهم، فجعل بعضهم يقول: إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة، ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر: إني لآتيها وهي على جنبها، ويقول الآخر إني لآتيها وهي باركة، فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول عكرمة. والثاني: يعني من أي وجه أحببتم في قُبِلها، أو من دُبْرِها في قُبلها. روى جابر أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من أعجازهن، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول، فَأَكْذَبَ الله حديثهم وقال: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ}، وهذا قول ابن عباس، والربيع. والثالث: يعني من أين شئتم وهو قول سعيد بن المسيب وغيره. والرابع: كيف شئتم أن تعزلوا أو لا تعزلوا، وهذا قول سعيد بن المسيب. والخامس: حيث شئتم من قُبُلٍ، أو من دُبُرٍ، رواه نافع، عن ابن عمر وروى عن غيره. وروى حبيش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس أن ناساً من حِمْير أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول الله: إني رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه، فأنزل فيما سأل عنه الرجل: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُقْبِلةً وَمُدْبِرةً إِذا كان في الفرج ». {وَقَدمِوُاْ لأَنفُسِكم} الخير، وهو قول السدي. والثاني: وقدموا لأنفسكم ذكر الله عز وجل عند الجماع، وهو قول ابن عباس.
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أما العرضة في كلام العرب، فهي القوة والشدة، وفيها ها هنا تأويلان: أحدهما: أن تحلف بالله تعالى في كل حق وباطل، فتتبذل اسمه، وتجعله عُرضة. والثاني: أن معنى عُرضة، أي علة يتعلل بها في بِرّه، وفيها وجهان: أحدهما: أن يمتنع من فعل الخير والإصلاح بين الناس إذا سئل، فيقول عليّ يمين أن لا أفعل ذلك، أو يحلف بالله في الحال فيعتلّ في ترك الخير باليمين، وهذا قول طاووس، وقتادة، والضحاك، وسعيد بن جبير. والثاني: أن يحلف بالله ليفعلن الخير والبر، فيقصد في فعله البر في يمينه، لا الرغبة في فعله. وفي قوله: {أَن تَبَرُّواْ} قولان: أحدهما: أن تبروا في أيمانكم. والثاني: أن تبروا في أرحامكم. {وَتَتَقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} هو الإصلاح المعروف {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لأيمانكم، عليم باعتقادكم. قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغوِ فيِ أَيْمانِكُم} أما اللغو في كلام العرب، فهو كل كلام كان مذموماً، وفضلا لا معنى له، فهو مأخوذ من قولهم لغا فلان في كلامه إذا قال قبحاً، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55]. فأما لغو اليمين التي لا يؤاخذ الله تعالى بها، ففيها سبعة تأويلات: أحدها: ما يسبق به اللسان من غير قصد كقوله: لا والله، وبلى والله، وهو قول عائشة، وابن عباس، وإليه ذهب الشافعي، روى عبد الله بن ميمون، عن عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينضلون يعني يرمون، ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال أصاب والله، أخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال: «كَلاَّ أَيْمَانُ الرَُمَاةِ لَغُّوٌ وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ عُقٌوبَةَ ». والثاني: أن لغو اليمين، أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف عليه، ثم يتبين أنه بخلافه، وهو قول أبي هريرة. والثالث: أن لغو اليمين أن يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن صلة للكلام، وهو قول طاوس. وقد روى يحيى بن أبي كثير عن طاووس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ ». والرابع: أن لغو اليمين أن يحلف بها في المعصية، فلا يكفر عنها، وهو قول سعيد بن جبير، ومسروق، والشعبي، وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَذَرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَلاَ نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ ». والخامس: أن اللغو في اليمين، إذا دعا الحالف على نفسه، كأن يقول: إن لم أفعل كذا فأعمى الله بصري، أو قلل من مالي، أو أنا كافر بالله، وهو قول زيد بن أسلم. والسادس: أن لغو اليمين هو ما حنث فيه الحالف ناسياً، وهذا قول النخعي. ثم قوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يحلف كاذباً أو على باطل، وهذا قول إبراهيم النخعي. والثاني: أن يحلف عمداً، وهذا قول مجاهد. والثالث: أنه اعتقاد الشرك بالله والكفر، وهذا قول ابن زيد. {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} غفور لعباده، فيما لغوا من أيمانهم، حليم في تركه مقابلة أهل حسنته بالعقوبة على معاصيهم.
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} معنى قوله تعالى: {يُؤْلُونَ} أي يقسمون، والألية: اليمين، قال الشاعر: كُفِينا مَنْ تعنّت من نِزَار *** وأحلَلْنا إليه مُقسِمينا وفي الكلام حذف، تقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم لكنه إنما دل عليه ظاهر الكلام. واختلفوا في اليمن التي يصير بها مولياً على قولين: أحدهما: هي اليمين بالله وحده. والثاني: هل كل عين لزم الحلف في الحنث بها ما لم يكن لازماً له وكلا القولين عن الشافعي. واختلفوا في الذي إذا حلف عليه صار مُولياً على ثلاثة أقاويل: أحدها: هو أن يحلف على امرأته في حال الغضب على وجه الإضرار بها، أن لا يجامعها في فرجها، وأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير الغضب فليس بمولٍ، وهو قول عليّ، وابن عباس وعطاء. والثاني: هو أن يحلف أن لا يجامعها في فرجها، سواء كان في غضب أو غير غضب، وهو قول الحسن، وابن سيرين، والنخعي، والشافعي. والثالث: هو كل يمين حلف بها في مساءة امرأته على جماع أو غيره، كقوله والله لأسوءنك أو لأغيظنك، وهو قول ابن المسيب، والشعبي، والحكم. ثم قال تعالى: {فَإِن فَاؤُوا} يعني رجعوا، والفيء والرجوع من حال إلى حال، لقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] أي ترجع، ومنه قول الشاعر: ففاءَتْ ولم تَقْضِ الذي أقبلت له *** ومِنْ حَاجَةِ الإنسانِ ما ليْسَ قاضيا وفي الفيء ثلاثة تأويلات: أحدها: الجماع لا غير، وهو قول ابن عباس، ومن قال إن المُوِلَي هو الحالف على الجماع دون غيره. والثاني: الجماع لغير المعذور، والنية بالقلب وهو قول الحسن وعكرمة. والثالث: هو المراجعة باللسان بكل غالب أنه الرضا، قاله ابن مسعود، ومن قال إن المُولي هو الحالف على مساءة زوجته. ثم قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أراد غفران الإثم وعليه الكفارة، قاله عليّ وابن عباس وسعيد بن المسيب. والثاني: غفور بتخفيف الكفارة إسقاطها، وهذا قول من زعم أن الكفارة لا تلزم فيما كان الحنث براً، قاله الحسن، وإبراهيم. والثالث: غفور لمأثم اليمين، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتفكير، قاله ابن زيد. ثم قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ} الآية. قرأ ابن عباس وإن عزموا السّراح، وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن عزيمة الذي لا يفيء حتى تمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك. واختلف من قال بهذا في الطلاق الذي يلحقها على قولين: أحدهما: طلقة بائنة، وهو قول عثمان، وعليّ، وابن زيد، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس. والثاني: طلقة رجعية، وهو قول ابن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة. الثاني: أن تمضي الأربعة الأشهر، يستحق عليها أن يفيء، أو يطلق، وهو قول عمر، وعلي في رواية عمرو بن سلمة، وابن أبي ليلى عنه، وعثمان في رواية طاووس عنه، وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر في رواية نافع عنه. روى سُهَيْلُ بن أبي صالح عن أبيه قال: «سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلاّ طلق» وهو قول الشافعي، وأهل المدينة. والثالث: ليس الإيلاء بشيء، وهو قول سعيد بن المسيب، في رواية عمرو ابن دينار عنه. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تأويلان: أحدهما: يسمع إيلاءه. والثاني: يسمع طلاقه. وفي {عَلِيمٌ} تأويلان: أحدهما: يعلم نيته. والثاني: يعلم صبره.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} قوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} يعني المخليات، والطلاق: التخلية كما يقال للنعجة المهملة بغير راع: طالق، فسميت المرأة المَخْلي سبيلها بما سميت به النعجة المهمل أمرها، وقيل إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطاً لا يمنع، فسميت المرأة المُخْلاَةُ طالقاً لأنها لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة، ولذلك قيل لذات الزوج إنها في حباله لأنها كالمعقولة بشيء، وأما قولهم طَلَقَتْ المرأة فمعناه غير هذا، إنما يقال طَلَقَتْ المرأة إذا نَفَسَتْ، هذا من الطلْق وهو وجع الولادة، والأول من الطَّلاَقِ. ثم قال تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} أي مدة ثلاثة قروء، واختلفوا في الأقراء على قولين: أحدهما: هي الحِيَضُ، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والسدي، ومالك، وأبي حنيفة، وأهل العراق، استشهاداً بقول الشاعر: يا رُبَّ ذي صغن عليّ فارض *** له قروءٌ كقروءِ الحائض والثاني: هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، وأبان بن عثمان، والشافعي، وأهل الحجاز، استشهاداً بقول الأعشى: أفي كلِّ عامٍ أنتَ جَاشِمُ غزوةً *** تَشُدُّ لأقصاها عزِيمَ عزائِكَا مُوَرّثَةً مالاً وفي الحيِّ رِفعَةٌ *** لِمَا ضاعَ فيها من قروءِ نِسائكا واختلفوا في اشتقاق القرء على قولين: أحدهما: أن القرء الاجتماع، ومنه أخذ اسم القرآن لاجتماع حروفه، وقيل: قد قرأ الطعام في شدقه وقرأ الماء في حوضه إذا جمعه، وقيل: ما قرأتِ الناقة سَلَى قط، أي لم يجتمع رحمها على ولد قط، قال عمرو بن كلثوم: تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ على خَلاءٍ *** وقد أمنَتْ عُيونُ الكَاشِحِينا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرِ *** هَجَانَ اللون لم تقرَأْ جَنِينَا وهذا قول الأصمعي، والأخفش، والكسائي، والشافعي، فمن جعل القروء اسماً للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسماً للطهر فلاجتماعه في البدن. والقول الثاني: أن القرء الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجِيؤه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، وكذلك قالت العرب: أَقْرأَتْ حاجة فلان عندي، أي دنا وقتها وحان قضاؤها. وأَقْرَأَ النجم إذا جاء وقت أُفوله، وقرأ إذا جاء وقت طلوعه، قال الشاعر: إذا ما الثُّرَيَّا وقد أقَرْأَتْ ***........................ وقيل: أقرأت الريح، إذا هبت لوقتها، قال الهذلي: كَرِهتُ العقْرَ عَقْرَ بني شليل *** إذا لِقَارئِهَا الرِّياح يعني هبت لوقتها، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء. فمن جعل القرْء اسماً للحيض، فلأنه وقت خروج الدم المعتاد، ومن جعله اسماً للطهر، فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الحيض، وهو قول عكرمة، والزهري، والنخعي. والثاني: أنه الحمل، قاله عمر وابن عباس. والثالث: أنه الحمل والحيض قاله عمر ومجاهد. {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وعيد من الله لهن، واختلف في سبب الوعيد على قولين: أحدهما: لما يستحقه الزوج من الرجعة، وهو قول ابن عباس. والثاني: لإلحاق نسب الوليد بغيره كفعل الجاهلية، وهو قول قتادة. ثم قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} البعل: الزوج، سُمِّيَ بذلك، لعلوه على الزوجة بما قد ملكه عن زوجيتها ومنه قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125] أي رَبّاً لعلوه بالربوبية، {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ} أي برجعتهن، وهذا مخصوص في الطلاق الرجعي دون البائن. {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحاً} يعني إصلاح ما بينهما من الطلاق. ثم قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن، وهو قول الضحاك. والثاني: ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين، مثل ما لأزواجهن، وهو قول ابن عباس. والثالث: أن الذي لهن على أزواجهن، ترك مضارتهن، كما كان ذلك لأزواجهن، وهو قول أبي جعفر. ثم قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} وفيه خمسة تأويلات: أحدها: فضل الميراث والجهاد، وهو قول مجاهد. والثاني: أنه الإمْرَةُ والطاعة، وهو قول زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن. والثالث: أنه إعطاء الصداق، وأنه إذا قذفها لاعنها، وإن قذفته حُدَّتْ، وهو قول الشعبي. والرابع: أفضاله عليها، وأداء حقها إليها، والصفح عما يجب له من الحقوق عليها، وهو قول ابن عباس وقتادة. والخامس: أن جعل له لحْية، وهو قول حميد.
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث، وأنه يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة، وهو قول عروة وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ناسياً، إنْ راجع امرأته قبيل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تختلين مني، قالت له كيف؟ أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، فشكت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} الآية. والتأويل الثاني: أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قول طلقة واحدة، وهو قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومجاهد. قوله تعالى: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} فيه تأويلان: الأول: هذا في الطلقة الثالثة، روى سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ}، وهذا قول عطاء، ومجاهد. والثاني: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ} الرجعة بعد الثانية {أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} والإمساك عن رجعتها حتى تنقضي العدة، وهو قول السدي، والضحاك. الإحسان هو تأدية حقها، والكف عن أذاها. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} يعني من الصداق {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} قرأ حمزة بضم الياء من يخافا، وقرأ الباقون بفتحها، والخوف ها هنا بمعنى الظن، ومنه قول الشاعر: أتاني كلامٌ عن نصيبٍ يقوله *** وما خِفْتُ بالإسلامِ أنك عائبي يعني وما ظننت. وفي {أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} أربعة تأويلات: أحدها: أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق، وهو قول ابن عباس. والثاني: أن لا تطيع له أمراً، ولا تبرّ له قَسَماً، وهو قول الحسن، والشعبي. والثالث: هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة، وهو قول عطاء. والرابع: أن يكره كل واحد منهما صاحبه، فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه، وهو قول طاووس، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، روى ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ». يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره. ثم قال تعالى: {فإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَليهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: افتدت به نفسها من الصداق وحده من غير زيادة، وهو قول عليّ، وعطاء، والزهري، وابن المسيب، والشعبي، والحكم، والحسن. والقول الثاني: يجوز أن تُخَالِعَ زوجها بالصداق وبأكثر منه، وهذا قول عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والشافعي. رَوَى عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الرُّبَيِّعَ بنت مُعَوّذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يُقِلُّ عليَ الخبز إذا حضر، ويحرمني إذا غاب، قالت: وكانت مني زَلَّةٌ يوماً فقلت: أنْخَلِعُ منك بكل شيء أملكه، قال: نعم، قالت ففعلت، قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس. واختلفوا في نسخها، فَحُكِيَ عن بكر بن عبد الله أن الخلع منسوخ بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَءَاتَيتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً} [النساء: 20] وذهب الجمهور إلى أن حكمها ثابت في جواز الخلع. وقد روى أيوب، عن كثير مولى سَمُرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة ناشزة، فأمر بها إلى بيت كثير، فحبسها ثلاثاً، ثم دعاها فقال: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما وجدتُ راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني، فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. وقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} فيه قولان: أحدهما: أنها الطلقة الثالثة وهو قول السدي. والثاني: أن ذلك تخيير لقوله تعالى: {أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وهو قول مجاهد. {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ} يعني أنها لا تحل للزوج المطلق ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر، وفيه قولان: أحدهما: أن نكاح الثاني إذا طلقها منه أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل، وهو قول سعيد بن المسيب. والثاني: أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني، حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، للسنّة المروية فيه، وهو قول الجمهور.
|